سورة سبأ - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الحمد للّه من اللّه سبحانه، هو حمد لذاته من ذاته.. فهو سبحانه المستحق للحمد، وإن لم ينطق بذلك لسان.. فالوجود كلّه مسبح بحمده سبحانه، إذ كان الوجود- في ذاته- نعمة، على أية صورة كان عليها الوجود، وعلى أي وضع قام عليه.. فهو خروج من عدم.. والعدم سلب، والوجود وجوب.
الوجود شىء، والعدم لا شىء.. والوجود صفة من صفات اللّه، به تتحقق ذاتية الذات، وتتحدد ماهيته.. ومن هنا كان.. الحمد للّه، تسبيح كل موجود وصلاة كل مخلوق: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء] وفي قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} إشارة إلى ما استوجب اللّه سبحانه وتعالى من حمد فوق حمد الوجود، وهو حمد البعث، بعد الموت، الذي هو أشبه بوجود جديد للإنسان، وإمساك به من الذهاب إلى العدم الذي كان وشيكا أن ينتهى إليه بعد الموت.
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} إشارتان.. إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، الذي ملك هذا الوجود بسلطانه المطلق، لم يكن في هذا السلطان المطلق جور، أو استبداد، لأنه سلطان في يد الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه، وأقامه في المقام المناسب له.. والإشارة الأخرى إلى سوء ظن الكافرين والمشركين، وأهل الضلال، باللّه سبحانه وتعالى، وقصور إدراكهم لما للّه سبحانه وتعالى من علم، وأنهم لو علموا بعض ماللّه من قدرة، وعلم، وسلطان، لخافوا بأسه، ولما جرءوا على عصيانه، إذ لا يجرؤ على مخالفة أمر ذى الأمر، والخروج على سلطان ذى السلطان، إلا من وقع في تصوره أن عين صاحب الأمر لا تراه، أو أن سلطان ذى السلطان لا يقدر عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} [22- 23: فصلت] قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}.
هذه الآية، هى شرح وبيان لصفة {الخبير} التي وصف الحق بها ذاته، في قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.
فالخبير، هو العالم علما كاشفا لكل شىء.. وعلم اللّه هو العلم الكامل كمالا مطلقا، حيث تنكشف به حقائق الأشياء كلها، إذ كان كل شيء هو صنعة اللّه، من مبدأ وجود المخلوق إلى كل ما يطرأ عليه من تبدل وتحول في كل لحظة من لحظات الزمن.. ولهذا وصف علم اللّه بالخبرة، إذ كان علما عاملا، بحيث لا يقع شيء في الوجود إلا عن علم، وعن تقدير بمقتضى هذا العلم.. فكان علمه سبحانه على هذا التمام والكمال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك]- وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها}.
إشارة إلى بعض علم اللّه، فيما بين أيدى الناس، وهو هذا العالم الأرضى الذي يعيشون فيه.. فهذه الأرض، يعلم اللّه سبحانه ما يلج فيها، أي ما ينفذ إلى باطنها، ويتسرب إلى أعماقها.. فالولوج معناه دخول الشيء في الشيء، ومنه قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} فهو سبحانه يعلم كل حبّة في باطن الأرض، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويعلم سبحانه ما يجرى في باطن الأرض من ماء.
كذلك- ومن باب أولى في حسابنا- يعلم سبحانه ما يخرج من الأرض من نبات، وما يتفجر من عيون.
وفي قوله تعالى: {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها} إشارة أخرى إلى علم اللّه سبحانه بما فوق هذا العالم الأرضى، وهو السماء.. فهو سبحانه يعلم ما ينزل من السماء من ماء، وملائكة، وهو يعلم ما يعرج في السماء، أي ما يصعد إليها من عالم الروح الذي نزل إليها.
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} إشارة إلى أن ما يلج في الأرض وما يخرج منها، هو هذه الرحمة التي تنزل ماء من السماء، فتلج في الأرض، فتخرج منها حبّا ونباتا وجنات ألفافا.. وفي هذا حياة كل حىّ، طعاما وشرابا.. ثم إشارة أخرى إلى ما ينزل من السماء من آيات اللّه وكلماته، يحملها أمين الوحى إلى المصطفين من عباد اللّه لرسالته، فيكون فيها حياة الأرواح، وتزكية النفوس.. ثم إشارة ثالثة إلى ما يعرج في السماء، ويصعد إليها من أعمال النّاس.. وقليل منها طيب، وكثير هو الخبيث.. ومع هذا، فإن اللّه سبحانه لا يمسك رحمته عن النّاس، ولا يعجل لهم الجزاء، بل يوسع لهم من مغفرته ورحمته، فيغفر للمذنبين التائبين، ويرحم العصاة الفارّين بذنوبهم إلى اللّه: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ}.
العطف هنا في قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هو عطف على مضمون الآيتين السابقتين... فهذا المضمون هو قول الوجود كلّه، وهو قول المؤمنين من النّاس.. وكأن المعنى هو:
قال الوجود كله وقال المؤمنون من عباد اللّه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ..} الآية وما بعدها.
هذا ما قاله الوجود، والمؤمنون.. وقد اقتضى هذا الإقرار من المؤمنين أن يؤمنوا بالآخرة وأن يعملوا لها.. أما غير المؤمنين، فلم يقولوا هذا القول، ولم يؤمنوا باللّه ولا باليوم الآخر.
والصورة إذن هى: قال الذين آمنوا آمنا باليوم الآخر، وبأن الساعة آتية لا ريب فيها، {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ}.
وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يردّ عليهم هذا الزعم الباطل، وأن يكذّب هذا الادعاء الفاسد، فقال تعالى: {قُلْ.. بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.
{وبلى} جواب لإثبات المستفهم عنه بالنفي، وإيجابه.
ففى قولهم: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} نفى في طيه استفهام إنكارى، وكأنهم يقولون: {ألا تأتينا الساعة} مبالغة منهم في إنكارها، وفي تحدّى من يؤمن بها.
وقد جاء الردّ عليهم مثبتا لما نفوه، موكدّا له، قاطعا به: بهذا القسم باسم الربّ العظيم {وربّى} وبهذا التوكيد للفعل باللام والنون {لتأتينّكم}.
وفى القسم بالربّ، (بلى وربى) إشارة إلى ربوبية اللّه سبحانه، لهؤلاء الذين ينكرونه، وينكرون ما تقضى به الربوبية من الولاء اللّه، والتصديق برسله.
فهو إنكار غليظ، في مواجهة الربوبية التي لا تنقطع فواضل إحسانها وإنعامها لحظة واحدة عن أي موجود، ولو انقطع ذلك لما كان لموجود وجود!- وقوله تعالى: {عالِمِ الْغَيْبِ}.
صفة للرب- سبحانه وتعالى- الذي يعلم الغيب في السموات والأرض، ويعلم ما عليه هؤلاء الكافرون من محادّة اللّه.
فهو سبحانه- وقد علم منهم هذا الضلال- لن يدعهم يذهبون من غير حساب ولا جزاء، بل سيبعثهم سبحانه، ويردهم إليه، ويجزيهم بما كانوا يعملون.
وقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ} أي لا يغيب عن علمه- سبحانه- وزن ذرة، كائنة في السموات أو في الأرض، ولا أصغر من الذرة- وهى ما هى في الصغر- ولا أكبر... فكل ذلك عنده سبحانه وتعالى في كتاب مبين، قد استودع مكنونات علمه.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} إشارة إلى حصر الموجودات كلها صغيرها وكبيرها {فِي كِتابٍ مُبِينٍ} أي مفصل فيه كل شيء تفصيلا واضحا محددا.. فما وقع في ظن الكافرين باللّه أن شيئا من هذا غائب عن علم اللّه إلا كان هذا في كتاب مبين.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}.
اللام في قوله تعالى {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} هى لام العاقبة، أي أن عاقبة هذا العلم من اللّه سبحانه وتعالى لما يعمل الناس من خير أو شر، هو الحساب والجزاء، فيجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، جزاء حسنا.
ويجزى الذي أساءوا السّوءى وعذاب الجحيم.
وقد أطلق الجزاء الذي يجزى به اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلم يقيد بأنه جزاء حسن للدلالة على أنه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.. إذ ليس للإحسان جزاء إلا الإحسان كما يقول سبحانه: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} [60: الرحمن] وفى الإشارة إلى المؤمنين بقوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} رفع لقدرهم، وتنويه بمنزلتهم العالية في مقام التكريم والإحسان.. وفى الضرب عن صفة الجزاء للذين سعوا في آيات اللّه معاجزين، إشارة إلى التعجيل بالجزاء السيّء لهم، ومواجهتهم به بمجرد أن يعرضوا على الحساب.. إنه عذاب من رجز أليم.
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} فضح لهم وكشف عن موقفهم الذليل في مقام الخزي والهوان.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ} إشارة إلى أنهم كانوا يخوضون في آيات اللّه خوضا، بغير حساب، استخفافا بها، وسخرية منها.. وهذا بعض السر في تعدية الفعل {سعى} بحرف الجر {فى} الذي يفيد الظرفية.
وقوله تعالى: {مُعاجِزِينَ} حال لبيان الغاية من هذا السعى الآثم في آيات اللّه، وأنه لم يكن سعيا للإفادة منها، والاهتداء بهديها، وإنما هو سعى لحجبها عن الناس، ولتعجيزها، وإعجاز الناس عن الوصول إليها.
قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
المفسرون يكادون يجمعون على أن هذه الآية مدنية، من بين آيات السورة المكية كلها.. ولا نجد لهم مستندا لهذا القول إلا ما تشير إليه الآية من الحديث عن الذين أوتوا العلم.. وإذا كان الذين أوتوا العلم هنا هم أهل الكتاب- وخاصة علماء اليهود- وإذا كانت السورة مكية، والقرآن المكي لم يخاطب أهل الكتاب بعد، فيكون من مقتضى هذا، أن الآية من القرآن المدني الذي نزل في مواجهة أهل الكتاب بعد الهجرة!!.. هكذا كان تقدير القائلين بأن هذه الآية مدنية.
ولا معوّل- عندنا- على هذا الاستنتاج الذي لا يسنده خبر صحيح.. وعلى هذا، فالآية مكية مثل آيات السورة كلها.
وأما الإشارة إلى الذين أوتوا العلم، وليكن المراد بهم أهل الكتاب، فإن هذا لا يمنع من أن يتحدث القرآن عن أهل الكتاب، وأن يستدعيهم الشهادة على ما يعلمون من آيات اللّه، وأنها الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك قبل أن تلتقى بهم الدعوة، وتلقاهم لقاء مباشرا.
وسواء أشهد أهل الكتاب أم لم يشهدوا، وسواء أكانت شهادتهم حقا أو باطلا، فإن هذه الإشارة إليهم، هى مطالبة لهم بأن يقولوا ما عندهم من علم عن هذا الرسول، وعن الكتاب الذي بين يديه، وأن ينطقوا بألسنتهم ما كتموه في صدورهم... فإن لم يفعلوا فقد أثموا، وأدينوا، لأنهم خالفوا ما أمرهم اللّه به، ونقضوا الميثاق الذي أخذه عليهم، كما يقول سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [187: آل عمران] ثم إن في هذا إرهاصا بما سيكون لهذه الدعوة من شأن مع أهل الكتاب، وأنهم سيدعون إليها، ويطالبون بالايمان بها، وذلك حين يجىء دورهم.
والمراد بالرؤية هنا، العلم.
وقوله تعالى: {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} {الذي} مفعول أول للفعل يرى، بمعنى يعلم، ومفعوله الثاني هوقوله تعالى: (الْحَقَّ).. والضمير {هو} ضمير فصل يشير إلى القرآن الكريم. ويلفت إليه، وينوه به.. وفى تعريف {الحق} ما يفيد القصر، وذلك بتعريف ركنى الجملة إذ أن أصل الكلام هو: {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}.
أي الذي لا حقّ وراءه.. فهو وحده الحق، وما سواه خارج عليه، فهو الباطل.
وقوله تعالى: {وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
معطوف على المفعول الثاني {الحقّ}.
فهو جملة في محل نصب.. أي ويعلم الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك من ربّك يهدى إلى صراط العزيز الحميد.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}.
أي أن الذين أوتوا العلم رأوا، ما أنزل إلى النبىّ من آيات ربه، فعلموا أنها الحقّ، وقالوا- بلسان الحال- آمنا به، وبما حدّث به عن البعث والحساب والجزاء.. وكان قول الذين كفروا هو الاستهزاء والسخرية برسول اللّه، والتكذيب لآيات اللّه.. فقالوا ساخرين مستهزئين منكرين:
{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟}.
إنهم يتنادون فيما بينهم، ويدعو بعضهم بعضا إلى هذا العجب الذي يحدّثهم به النبىّ صلى اللّه عليه وسلم، من أمر البعث والحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونار.
قوله تعالى: {أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} هذا هو مجمل ما يجيب به بعضهم بعضا، على هذه التساؤلات التي يتساءلونها في أمر هذا الخبر العجيب الذي يحدثهم به النبىّ عن البعث.. إنهم ينتهون إلى أن يضعوا النبىّ بين أمرين، لا ثالث لهما: إما أن يكون رجلا افترى على اللّه الكذب فيما يحدثهم به، ويقول عنه إنه من عند اللّه.. فهذا الحديث- عندهم- لا يكون من اللّه، لأن اللّه لا يعقل منه أن يقول مثل هذا القول غير المعقول.. وإما أن يكون هذا الرجل مجنونا، يلقى الكلام كما يصوّره له جنونه.. وإذن فعلى كلا الأمرين، لا يسمع له، ولا يلتفت إليه.
وفى قولهم على {رجل} إمعان منهم في الاستصغار لشأن النبي، وأنه أقلّ من أن يذكر باسمه أو صفته.. ولهذا ردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ}.
فأضرب اللّه على كلامهم وأبطله، ثم ألقى بهم في العذاب، وألبسهم لباس العمى والضلال.
وقدّم العذاب على الضلال، مع أن العذاب الذي سينالهم هو من ثمرة ضلالهم- قدم هذا، استعجالا لما يسوءهم، واستحضارا للبلاء الذي ظنوا أنهم في مأمن منه.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين كانوا يسخرون من رسول اللّه.
ويكذبون بآيات اللّه، ولا يرجون لقاء اللّه.. فهؤلاء وقد توعدهم اللّه بالعذاب الأليم في الآخرة، إن كانوا قد شكوا في هذا الوعيد، أو استبعدوا يومه، فلينظروا فيما حولهم، وفيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض.. من يمسك السماء أن تسقط عليهم؟ ومن يحفظ الأرض أن نخسف بهم؟ أليس هو اللّه سبحانه وتعالى؟ ذلك ما لا سبيل إلى إنكاره.. وإذا كان ذلك كذلك وقد عصوا اللّه، وحادوا رسوله- أفلا يمكن أن يعاجلهم اللّه بالعقاب في الدنيا؟
أهناك من يعصمهم من بأس اللّه إذا جاءهم؟ أهناك من يردّ مشيئة اللّه لو شاء سبحانه أن يخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم حجارة من السماء؟
وفى قوله تعالى {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} إشارة إلى أن هذا الذي تحدث به الآية عن قدرة اللّه وعن بأسه الذي لا يرد، لا يلتفت إليه ولا ينتفع به إلا من كان ذا عقل متفتح، وبصيرة نافذة، وقلب سليم، إذا رأى الحق عرفه، وإذا عرفه آمن به، وعمل على هداه، فإن كان كافرا آمن باللّه، وإن كان عاصيا تاب إلى اللّه ورجع إليه من قريب، أما من أنام عقله، وأغلق قلبه، فإنه يظل مجمدا على حال واحدة، لا يتحول عنها، ولا يرجع عن الطريق الذي ركبه، وإن كان فيه مهلكه.


{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
أوبى معه: أي سبحى معه ورددى ما يقول من آيات الشكر والحمد للّه.
السابغات: الدروع الضافية، الكاسية.. ونعمة سابغة: أي كثيرة عامة شاملة، تغنى صاحبها، وتستر حاجته، وتسد خلّته.
وقدر في السرد: أي اعمل بحساب وتقدير في نسج الدروع من الحديد، ووصل حلقات بعضها ببعض. ومنه قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}.
أي أوجدها في دقة وإحكام.
ومناسبة الآية لما قبلها، أن الآية السابقة عليها ختمت بقوله تعالى. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فجاءت هذه الآية لتكشف عن صورة كريمة للإنسان الذي يحقق معنى الإنابة، على التمام والكمال، وهو داود عليه السلام.
وإذا كان داود وسليمان قد خلع اللّه سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة من نعمه، فإن هذه النعم لا يقام بحقها، ولا يؤدّى بعض ما للّه على عباده منها، إلا إذا كانت النعم ابتلاء من اللّه.. كالنقم سواء بسواء، فمن لم يصبر على مراقبة اللّه فيما حوله من نعم، ضل وانحرف، وفى قارون مثل بيّن في هذا.. ولهذا جاء قول سليمان، فيما حكاه اللّه عنه، بعد أن طلب عرش ملكة سبأ فوجده بين يديه، جاء قوله. {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} كاشفا عن تلك الحقيقة من أمر النعم، وأنها قد تدعو من لا يحرص على مراقبة اللّه فيها.
إلى الكفر والضلال.. وقد كان داود عليه السلام في حراسة دائمة لنفسه.
وفى مراجعة لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وأنه كلما وجد من نفسه ما لا يرضاه في صلته بربه، بادر بإصلاح ما كان منه، وصالح ربّه بالتوبة والاستغفار.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى عنه: {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} بيان لما أنعم اللّه به على عبده داود من فواضل إحسانه وكرمه.. وفى تقديم متعلق الفعل وهو الجار والمجرور {منّا} على المفعول به {فضلا} تعظيم للمنعم. وإشارة إلى علو المقام الذي جاء منه الإحسان، فيقطع العقل بأنه إحسان عظيم قبل أن يكشف عن الإحسان.
وقوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.
هو مقول لقول محذوف.. والتقدير فشكر لنا هذا الفضل، وسبح بحمدنا على هذا الإحسان، فقبلنا منه شكره وحمده، وقلنا {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي سبحى، وأعينيه على حمدنا وشكرنا، إذ كانت نعمنا عليه كثيرة، لا يستطيع أحد شكرها، مهما اجتهد في الشكر، وبالغ في الحمد.. فمن فضل اللّه على عباده أن يحسن إليهم، ومن تمام هذا الإحسان أن يعينهم على شكره، ومن مضاعفة العون أن يسخر غيرهم ليكونوا ألسنة من ألسنة الشكر للّه معهم على ما أنعم اللّه عليهم.
فالجبال هنا مأمورة من اللّه سبحانه أن تسبّح مع داود، وأن تقوم إلى جانبه شاكرة للّه، وكأنها من صنعة داود، وغرس يديه.. وهذا إحسان من اللّه على عبده داود، فوق إحسان، وفضل فوق فضل.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} أي زيادة في الإحسان، ومزيدا من النعم، يفضل بهما كثيرا ممن أنعمنا عليهم من عبادنا.
والتأويب: الترديد والترجيع، فهو من الأوب، والرجوع.. وتأويب الجبال مع داود، هو ترديد تسبيحه، فيكون ذلك أشبه بالصدى للصوت، حيث، يرجع الصوت في هذا الصدى إلى مصدره الذي جاء منه.
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ}.
الواو هنا واو المعية، والطير مفعول معه.
والتقدير: وقلنا يا جبال أوّبى معه، مع الطير التي تسبح معه.
وعلى هذا يكون الأمر من اللّه سبحانه وتعالى، متجها إلى الجبال، وإلى الطير، لتشارك داود التسبيح للّه، ولتعينه على حمد اللّه وشكره.
واختيار الجبال، والطير، من بين الكائنات كلها، إنما هو- واللّه أعلم- لأن الجبال أبرز وجوه الأرض، فهى أشبه بالسلطان القائم عليها، والطيور هى ملوك السماء، وأبرز ما يحلّق في أجوائها من ذوات الأجنحة، كالذباب، والبعوض، وغيره.
وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي أخضعناه لسلطانه، وجعلنا له القدرة على التصرف فيه، وتشكيله على الوجه الذي يريد.
والذي يجمع عليه المفسرون، أن اللّه قد ألان الحديد ليد داود، وغيّر طبيعته، فجعله في يده مثل العجين، يشكّله كيف يشاء، كما يشكل المرء صورة من الطين أو العجين.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن إلانة الحديد لداود، إنما كانت جارية على سنن الحياة، وأن اللّه سبحانه قد علّمه الأسلوب الذي يلين به الحديد، وهو عرضه على النار، والنفخ في النار حتى يحمّر، ويقبل الطرق.
وذلك ما لم يكن معروفا للناس في ذلك الزمن.. ولهذا كان داود أول من صنع من الحديد دروعا، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [80: الأنبياء].. وبهذا يكون داود عليه السلام، أول من طرق الحديد، متوسلا إلى ذلك بما علمه اللّه، من عرض الحديد على النار، حتى يلين، ويقبل الطرق.
وقوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} أي وأوحينا إليه أن عمل دروعا سابغات.
وقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي أحكم السرد، واضبطه.. وهذا توجيه من اللّه سبحانه وتعالى بإتقان العمل، وإحسانه، وضبطه على أحسن وجه له.
وقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صالِحاً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي أحسن الصنعة وأحكمها.. وأحسنوا أيها الناس جميعا كلّ عمل تعملونه، وأخرجوه على الوجه المرضىّ.. فإن إحسان العمل مما يحسب في الصالحات للإنسان.. فليس الإحسان في العمل مطلوبا من الأنبياء وحدهم، وإنما هو مطلوب من كل إنسان.. {وَأَحْسِنُوا.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى مطلع على عمل كل عامل، وأنه سبحانه بصير بما يعمل العاملون، يكشف ما في العمل من عيب أو عوج.
ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء بإساءته.. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ}.
الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} أي:
{ولقد آتينا داود منا فضلا، وسخرنا لسليمان الريح..}!
وقوله تعالى: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ}.
الغدوّ: أول النهار، وفيه تغدو الكائنات إلى حيث تطلب رزقها وغذاءها.
والرواح: آخر النهار، حيث ترجع الكائنات الغادية، وتروح إلى مراحها الذي ترتاح فيه، بعد عمل يومها.
ومعنى غدوها شهر ورواحها شهر، أي أن مسيرة الريح المسخّرة لسليمان، في غدوة، تقدّر بمسيرة شهر، سيرا على القدم، كما أن مراحها، ورجوعها من غدوتها، يعدل مسيرة شهر.. كذلك.
أما ما يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الريح كانت تنطلق شهرا غادية، وشهرا رائحة، في حدود مملكة سليمان- فهذا بعيد، لأن رقعة مملكة سليمان لم تكن تتجاوز حدود فلسطين، وهذه الرقعة هى التي يمكن أن تقطعها الريح في غدوة أو روحة من نهار.. وأقرب شاهد لهذا ما جاء في القرآن الكريم من أن سليمان لم يكن يعرف مملكة سبأ حتى أخبره الهدهد بخبرها.. فلو كان ملك سليمان مما يتسع لجريان الريح شهرا فيه، لكان ذلك ملكا يسع معظم العالم كله، ولكانت سبأ داخلة في سلطان هذا الملك، من باب أولى.
وقوله تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي النحاس.. والنحاس أشد من الحديد إباء على النار.. فهو يحتاج في صهره إلى قوة حرارية أكثر مما يحتاج إليه الحديد.
وإذا كان داود قد عرف كيف يليّن الحديد، فإن سنة التطور تقضى بأن يتعرف ابنه سليمان على القوة الحرارية التي يتمكن بها من إلانة النحاس وصهره..!
والتعبير عن الحديد بالإلانة في قوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}، وعن النحاس بالسيولة- في قوله تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} إشارة إلى اختلاف طبيعتى كلّ من الحديد والنحاس، وأن الحد يمكن تشكيله بالطرق إذا سخن ولان.. أما النحاس، فلا ينتفع به حتى ينصهر، ويتحول إلى مادة أقرب ما تكون إلى السوائل.. وهذا ما نجده في قوله تعالى على لسان ذى القرنين. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}.
فالحديد هنا قد عرض على النار حتى احمر وصار أشبه بالجمر.. ثم جاء بالقطر- وهو النحاس الذائب- فأفرغه على هذا الحديد، وصبّه فوقه، كما يصب الماء على النار!! وعين القطر، هو الخالص منه.. فهو نحاس خالص، لم يختلط بشىء، مما يسمى الشّبه أي شبه النحاس.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ويستجيب لأمره من غير مراجعة.
والجنّ عالم غير مرئى، يعيش معنا على هذه الأرض، كما تعيش كثير من المخلوقات، غير المرئية، كالديدان في باطن الأرض، وكأنواع كثيرة من الأسماك في أعماق المحيطات.. وكوننا لا نرى هذه الكائنات، لا يدعونا الأمر إلى إنكارها، أو الشك في وجودها.
وقد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الجنّ، وأنزل سورة باسمهم، وقصّ علينا شأنا من شئونهم، وأعلمنا أن منهم المؤمنين، وأن منهم الفاسقين.. فيلزمنا التصديق بهم.. كما تحدث القرآن عنهم.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ} إشارة إلى أن سلطان اللّه سبحانه وتعالى قائم على هذه الكائنات، وأنه سبحانه قد سخّرها لتخدم عبدا من عباده، هو سليمان- عليه السلام- فهى واقعة تحت هذا الحكم، لا تخرج عنه. ومن خرج عنه منها، عذبه اللّه عذابا أليما.
وليس كل الجن سخّر لسليمان، وإنما بعض منهم، كما يفهم من قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ} أي ومن بعض الجن.
قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}.
أي أن هذه الجماعة من الجن، التي سخرها اللّه لسليمان، تعمل له ما يشاء: {من محاريب} أي بيوت عبادة، فالمحراب هو مكان العبادة، كما قال تعالى: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ}.
{وتماثيل} أي صور كائنات وأشياء مجسدة، يزين بها ما يبنى من دور وقصور، وبيوت عبادة، {وجفان كالجواب} الجفان جمع جفنة، وهى القصعة الكبيرة يوضع فيها الطعام للآكلين.
وفى وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة- دليل على سعة ملك سليمان، وما بسط اللّه له من رزق، حتى ليطعم على مائدته هذه الأعداد الكثيرة من الناس، التي أعدت لها تلك الأوانى والأدوات، لتهيئة الطعام لها.
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً}.
أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا للّه، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى عليكم من إحسان.
فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.
وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} هو حثّ لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله اللّه منهم، ورضيه لهم.
وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} هو تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر اللّه بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان في الناس كثير من الشاكرين للّه، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية في مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها.
وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن اللّه سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل- {تماثيل} منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس.. وهذا يعنى أن صناعة التماثيل ليست مما يقع في دائرة التحريم، أو الكراهية، وإلا لكان نبىّ اللّه سليمان أبعد الناس عن ملابسة هذه الصناعة، والانتفاع بها.
بقي بعد هذا أن نسأل:
لما ذا قامت هذه الجفوة بين المسلمين وبين ممارسة فنّ النحت، والتصوير، والرسم، وغيرها من الفنون الجميلة؟
ولا نجد لهذا الجفاء مستندا من كتاب اللّه، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام دعوة تلتقى بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه في مواجهة مدركاته، ومشاعره ووجداناته.
ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذى المشاعر والعواطف.
والذي يمكن أن يكون من الإسلام في أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفنّ النحت، ولم يفتح للناس طريقا إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامى يومئذ، كان خارجا من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها.
فكان من الحكمة أن تخفّ في الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلى إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته.. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشّعر، الذي كان يحمل قدرا كبيرا من الضلال والإفك.
وقد كان من الطبيعي أن يردّ إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها، بعد أن ماتت في النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد.
ولكن الذي حدث، هو الإمعان في الجفوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها لم تكن من مادة الحياة في عصر النبوة أو في عصر الخلفاء الراشدين.. وقد فات الذين ينظرون إلى هذه الفنون من خلال عصر النبوة، أن هذا العصر كان يعالج النفوس، والقلوب والعقول، من آفات كثيرة علقت بها، وأنه لم يعرض للجوانب السليمة المعافاة من الأدواء في كيان الإنسان، بل تركها تجرى على طبيعتها، وبقدر ما تحمل من طاقات وملكات! قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ}.
تكشف هذه الآية عن حقيقة الجن، وتصحح تلك الصّور المشوهة التي وقعت في أوهام الناس لهم، بنسبة الخوارق إليهم، وأنهم يقدرون على كل شيء قدرة مطلقة، وأنهم يعلمون الغيب، ولهذا يلجأ كثير من الناس إلى محاولة الاتصال بالجن، كما يفعل العرافون والسحرة وغيرهم، ففى قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} إشارة إلى أن سليمان حين حان أجله، وقضى اللّه عليه الموت، أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، وكان سليمان حين مات، قائما بين الجنّ وهم بين يديه يعملون له- لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به.
ولم يدلّهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض، التي كانت تأكل منسأته، أي عصاه التي كان يتكىء عليها.. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها، وسقطت على الأرض. وخر سليمان على الأرض كذلك.. وهنا علم الجن أن سليمان قد مات.. فأخلوا مكانهم، ومضوا إلى حيث يشاءون!! ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات، ولو كان بعيدا عنهم، فكيف وهو تحت سمعهم وبصرهم؟
إن الجن كائنات محدودة القدرة، واقعة في قيد العجز عن كثير من الأمور، شأنها في هذا شأن الإنسان.. الذي يقدر على القليل، ويعجز عن الكثير.
وقد كثرت الأقوال في دابة الأرض، وفى المدة التي قضتها حتى أكلت العصا، وأتت عليها.. والرأى الذي عليه المفسرون أنها الأرضة، وهى دودة تتسلط على الخشب، فتنخر فيه وتفسده، وتسمّى السوس.
وأنها ظلت تفعل هذا مدة طويلة، بلغ بها بعضهم سنة! والذي حمل المفسرين على القول بأن الدابة هى الأرض- هو- في ظننا- إضافة الدابة إلى الأرض.. أي أنها صغيرة ضئيلة، ملتصقة بالأرض.
كبعض الحشرات.
والرأى عندنا، أن الدابة، كل ما دبّ على الأرض.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فكل ما دبّ على الأرض، من إنسان وحيوان، فهو دابة، وكونها في الأرض، أو على الأرض، لا يغير من الأمر شيئا، وأنه إذا كان لإضافتها إلى الأرض هنا شأن خاص، فهو- واللّه أعلم- المبالغة في الإشارة إلى جهل الجنّ بعلم ما في الغيب، وأن دابة من دوابّ اللّه في الأرض، أعلم منهم، حيث دلتهم، وكشفت لهم عما عجزوا وهم عن كشفه، وهى مما على الأرض، فكيف بما في السماء من عوالم المخلوقات؟
وليس ببعيد أن تكون الدابة التي كانت تأكل من عصا سليمان، شيئا أكبر من الأرضة، وليس ببعيد ألا تكون الدابة واحدة، بل أعدادا كثيرة من نوع هذه الدابة.. فإن اللفظ يحتمل هذا.
وعلى هذا، فالذى يمكن أن تفهم عليه دابة الأرض، هو أن تكون هذه الدابة حيوانا كبيرا مما يدب على الأرض، ويمكن أن يتناول العصا بفمه، ويحاول الأكل منها، كبعض الحيوانات آكلة العشب، مع احتمال أن تكون عصا سليمان من بعض أغصان الزيتون الخضراء، التي لم تجفّ بعد.. فليس ببعيد- والأمر هكذا- أن تكون هناك شاة أو نحوها قد تمسّحت به، ومدت فمها إلى العصا، تريد الأكل منها، فوقعت العصا وخرّ سليمان إذ كان ميتا.
أما أن يظل سليمان هذا الزمن الطويل الذي يتجاوز الأيام إلى الأسابيع والشهور، وهو نائم، دون أن يفتقده أحد من رعيته، وأعوانه، ووزرائه، وقواده، فذلك ما لا يقبله العقل، وإن قيل أن جثته لم تتغير ولم تتحلّل خلال هذه المدة!! إنه من غير المعقول الذي يرتفع إلى درجة المستحيل، أن يغيب سليمان عن تدبير مملكته أياما، ثم لا يلتفت إليه أحد!! إن أي إنسان ذى شأن، لا يمكن أن تغفل عنه العيون يوما أو بعض يوم، فكيف بصاحب هذا السلطان العظيم؟
ويمكن كذلك أن تكون الأرضة قد كانت متسلطة على عصا سليمان، وهو لا يعلم، وأنه كان يحمل تلك العصا وقد عاث السوس فيها، حتى إذا كان متكئا عليها في مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات وثقل جسمه، كما هو الشأن في كل ميت! والسؤال هنا: هل كان الجن لا يعلمون أنهم لا يعلمون الغيب حتى وقعت هذه الواقعة، وانكشف لهم منها أنهم معزولون عن علم الغيب؟
والجواب- واللّه أعلم- أنهم كانوا بما لهم قدرة على الحركة والانطلاق في آفاق فسيحة، يظنون أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتى به الغد، بالنسبة للإنسان الذي لا يرى مثل هذه الرؤية البعيدة. فمثلا إنسان على طريق سفر يمكن أن تراه الجنّ، وتخبر عنه، وعن حاله على هذا الطريق، والحديث الذي يتحدث به، والأمتعة التي معه، وبعدكم من الزمن سيصل إلى المكان الذي يتحدث فيه أهله عنه.. كل هذه الأمور وكثير غيرها يمكن أن يعلمها الجن، قبل أن يعملها الإنسان الذي في الطرف الآخر من هذه الوقائع.. وهو في الواقع ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأى العين.. فهو حضور بالنسبة للجن، ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث.. حيث يرى الجن- ولا نرى نحن البشر- ما وراء الأبواب المغلقة، أو الجدر القائمة، ونحوها.
وهذا غيب بالنسبة لنا، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن.
أما الغيب بالنسبة للجن، فهو الأحداث التي لم تولد بعد، ولم تخرج إلى عالم الشهود، كمقدّرات اللّه في خلقه، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر.. كالعمر، والرزق والذرية، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان.
ومثل الإنسان في هذا سائر المخلوقات، وما قدّره اللّه لكل مخلوق.. فهذه المقدرات التي هى في حالة كمون، لم تتحرك بعد إلى الظهور، لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإلا من اصطفى من رسله، فأظهره على بعض ما انطوى في صحف الغيب.
وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة، هى سر من أسرار اللّه، وغيب من غيوبه، وأمر من أمره، لا يعلمه إلا هو، فلما زايلت مكانها من سليمان، لم يشعر الجن بها، ولم يعلموا من أمرها شيئا، وحسبوا سليمان- وهو ميت- أنه في غفوة، أو في سنة من النوم.. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها، وخرّ ميتا دون حراك، علم الجن أنه مات، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان، ولعلموا أنه مات، ولما لبثوا في قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم.. إنه عذاب مهين لهم، وإذلال لسلطانهم، وقهر لجبروتهم.


{لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
التفسير:
بدأت السورة بحمد اللّه، الذي له ما في السموات والأرض، ودعت الناس إلى حمده سبحانه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ كان- سبحانه- المتفرد بالخلق والإحسان.
وقد كشفت الآية في هذا المقام عن الناس، فإذا هم فريقان، حامد مؤمن باللّه واليوم الآخر، وجاحد بكفر باللّه وبالبعث وبالحساب والجزاء.
ثم عرضت الآيات بعد هذا، صورة للحامدين الشاكرين المؤمنين باللّه وباليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم العظيمة، والسلطان العريض.. وذلك فيما كان من داود وابنه سليمان، عليهما السلام.. ففى ذلك آية لأولى الألباب.
وفى هذه الآيات التي نحن بين يديها- عرض للجاحدين، الكافرين باللّه واليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم السابغة والخير الوفير.. وفى هذا آية أخرى.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} إشارة إلى هذه الجماعة التي كانت تسكن تلك البقعة، الخصيبة المعطاءة للخير.. وهى سبأ من أرض اليمن.
والمراد بسبأ هنا هم أهلها.. والمراد بمسكنهم، الحياة التي كانوا فيها.
و{آية} اسم كان، ولسبأ خبرها.
وقوله تعالى: {جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ} بدل من {آية}.
والتقدير: أنه كان لأهل سبأ آية، هى جنتان عن يمين وشمال.. وقد كان لهم في هذه الآية منطلق إلى الإيمان باللّه، والقيام بحمده وشكره.. ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الآية، بل زادتهم كفرا وإلحادا، ومحادّة للّه.
والمراد باليمين والشمال: كثرة الخير من حولهم، حيث يملئون أيديهم منه، وحيث يتناولونه من قريب، إن أرادوه بيمينهم وجدوه، وإن أرادوه بشمالهم تناولوه، دون أن يجهدوا أنفسهم بالتحول من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين.. وهذا مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} [48: النحل] ومثل قوله سبحانه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} [37: المعارج].
فالمراد بهذا كله الإحاطة من كل جانب.
وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أمر يراد به الإلفات إلى هذه النعم العظيمة التي أسبغها اللّه على القوم، وليس المراد به الأمر بالأكل على إطلاقه.
وقوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}:.. المراد بالبلدة الطيبة كثرة خيرها، ووفرة عطائها.. فهم فيها في نعم كثيرة، وخير موفور.. ومن تمام هذه النعم وذلك الخير، أن المتفضل بهذا كله هو {ربّ غفور}.
يتجاوز عن السيئات، ويقبل التائبين، ويعفو عنهم.. وبهذا تطيب النعمة، ويتّسع للإنسان مجال التمتع بها، على خلاف ما لو كان ربّ هذه النعم، يحاسب على الصغير والكبير، ويأخذ أصحابها بكل ما اقترفوا، فذلك مما يقيم الإنسان على حذر متصل وخوف دائم، فلا يهنؤه ما بين يديه من نعم! قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم، بالأكل من هذا الرزق، والحياة مع هذه النعم، في ظلّ من الإيمان باللّه، والحمد له.. فتنكروا لهذه النعم، وجحدوا هذا الإحسان، ونسوا ربهم، ولم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا.. فكان أن أخذهم اللّه بما يأخذ به الظالمين، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا، أتى على جنتيهم، وأفسد كل صالحة فيها.. ثم أعقبهم جدبا وقحطا، فأمسك الماء عنهم، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت في الأرض الجديب، من خسيس النبات والشجر، ومن ردىء الفاكهة والثمر.
وفى مقابلة الجنتين الطيبتين، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين- ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم في حياتهم، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم.. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات، إن كان يصحّ أن يكون ما في أيديهم مما يطلق عليه هذا الاسم..!! إنه لا جنّة لهم غير هذا النبات الخسيس، الذي تعاف رعيه الأنعام! والمراد بالجنتين- هنا أو هناك- الامتداد والاتساع.
والخمط: الرديء من الثمر والأثل: شجر لا ثمر له.
والسّدر: شجر النّبق.
قوله تعالى: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ}.
{ذلك} إشارة إلى ما حلّ بالقوم من نكال وبلاء.. وهو مبتدأ، محذوف خبره، وتقديره: ذلك ما جزيناهم به.. وقوله تعالى: {جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا} بدل من هذا المحذوف المشار إليه، وعطف بيان له.
وقوله تعالى: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي لم يكن جزاؤنا لهم إلا بسبب كفرهم بنعمتنا، فما تحل نقمتنا، إلا بمن يكفر بنا وبإحساننا.. {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال] والمجازاة غير الابتلاء.. فالمجازاة عقاب على ذنب اقترف، والابتلاه امتحان واختبار.. فقد يبتلى اللّه المحسنين بالضر، كما يبتلى المسيئين بالنفع.
ولهذا جاء التعبير القرآنى هنا: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي لا نعاقب إلا من يستحق العقاب من أهل الكفر والضلال.. فلا اعتراض إذن لما يصاب به أهل الإحسان في أموالهم أو أنفسهم، فذلك ابتلاء من اللّه لهم، وامتحان لإيمانهم، يزدادون بهدرجة في مقام الإحسان، إذا هم صبروا على هذا الابتلاء.
وليس ذلك الابتلاء من باب المجازاة لهم على ذنب اقترفوه.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ.. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}.
الحديث في هذه الآية عن أهل سبأ أيضا، وعما كان اللّه سبحانه وتعالى قد ألبسهم إياه من نعم.. فهو معطوف على قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} على تقدير قلنا لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له.
أي قلنا لهم ذلك، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة.
والقرى التي بارك اللّه فيها، هى قرى أرض الشام، التي كان يرحل إليها أهل سبأ، ويتجرون معها، وسميت قرى مباركة، لأنها في الأرض المباركة، المقدسة، كما يقول اللّه تعالى على لسان موسى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} والقرى الظاهرة، التي كانت بينهم وبين القرى المباركة، هى ما كان يلقاهم على طريقهم من اليمن إلى الشام، من منازل، وقرى، حيث يجدون فيها الأمن والراحة.
وقوله تعالى {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلناها صالحة للسير فيها، والتنقل بينها، كما في قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي اضبطه، وأحكم أمره.
وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} إشارة إلى هذه النعمة التي يجدها القوم على طريق تجارتهم إلى الشام، حيث يسيرون في هذه القرى تلك المنازل ليالى وأياما، في أمن وسلام، لا يعترضهم في طريقهم ما يخيفهم، أو يفزعهم.
وهذه نعمة من النعم العظيمة، لا يدرك مداها إلا من عاش في تلك المواطن في هذه الأيام، حيث كان الانتقال من مكان إلى مكان، محفوفا بالمخاطر والأهوال، منذرا بالوبال والهلاك.. ولهذا امتن اللّه على قريش بأن آمنهم في أسفارهم في رحلتى الشتاء والصيف، فقال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فماذا كان من القوم إزاء هذه النعمة أيضا؟
لقد كفروا بها، وتنكروا لها، كما كفروا وتنكروا للخصب والرخاء، والخبر الكثير الذي أخرجته أرضهم.. فقال تعالى على لسانهم:
{فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
لقد بطر القوم معيشتهم، فتنكبوا عن هذا الطريق الآمن المطمئن، والتمسوا طرقا أخرى إلى جهات بعيدة غير تلك الجهة التي ألفوها، وتبادلوا المنافع مع أهلها.. واستبدّ بهم الغرور، وأغراهم الطمع، فركبوا الأهوال ولمخاطر، لا لحاجة إلّا أن يرضوا هذا الغرور الذي ركبهم، إلا ليغذّوا مشاعر الاستعلاء التي استولت عليهم- فكان أن بدد اللّه شملهم، وبعثرهم في الأرض، ومزقهم كل ممزق.. فأصبحوا أحاديث على ألسنة الناس، لما وقع بهم من بلاه، وما حل بديارهم من خراب.
وليس الذي ذهبنا إليه في تأويل قوله تعالى: {فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} من أنهم ركبوا الأهوال والمخاطر- ليس هذا بالذي يحظر على الناس أن تنزع بهم هممهم إلى أبعد مما هم فيه، وإلى أن يتقلبوا في كل وجه من وجوه الحياة.
فهذا شىء، والذي كان من القوم شيء آخر.. إنهم خرجوا عماهم فيه بطرا واستعلاء، وكانوا أشبه بفرعون حين قال: {يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى}.
إنه يحارب بهذا البناء ربّ الأرباب، وهذا هو الذي جعل بناءه وبالا ونكالا عليه، ولو النمس من هذا البناء أن يرصد الكواكب والنجوم، مثلا أو أن يتخذه مسكنا له يشهد منه عظمة اللّه، ويرى منه فضل اللّه عليه- لكان ذلك عملا مبرورا مباركا.
وهؤلاء القوم، لو كان مقصدهم من الضرب في وجه الأرض، السعى في طلب الرزق، وإقامة حياة قائمة على العدل والإحسان، لبارك اللّه عليهم سعيهم، ولحمد مسيرتهم.. ولكنهم كانوا يركبون شيطانا مريدا، يدفع بهم دفعا إلى الكفر باللّه، وإلى السعى في الأرض فسادا.
وليس بالذي يشفع لهم، هذا القول الذي استفتحوا به ما طلبوا، حين قالوا {ربنا} فهذا قولهم بألسنتهم، ولو كان لهذا القول مكان في قلوبهم لكانوا مؤمنين باللّه حقا، ولما كان منهم هذا الفساد، وهذا الضلال الذي هم فيه.
ولقد قالها إبليس من قبلهم، وهو في موقف التحدّى للّه، والإصرار على الإثم العظيم، فقال: {رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيهم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
فلقد انقادوا لإبليس، وأسلموا زمامهم له، وصدّق عليهم ظنه الذي ظنه في أبناء آدم، حين قال: {رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [39- 40: الحجر].. فلقد استجاب هؤلاء المغوون لإبليس، وصدّفوا ظنه فيهم.. إلا فريقا قليلا من المؤمنين منهم، الذين ثبتوا على إيمانهم، ولم يجد إبليس سبيلا يدخل على إيمانهم منه، بالغواية والإضلال.
وقوله تعالى: {وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.
أي أنه لم يكن لإبليس سلطان قاهر على هؤلاء الذين دعاهم فاستجابوا له، وقد كان أمرهم بأيديهم، إن شاءوا عصوه، وإن شاءوا اتبعوه.. وفى الفريق الذين عصوه، وثبتوا على إيمانهم، شاهد على هذا.. إن إبليس وما معه من مغريات ومغويات، ليس إلا بعض ما يبتلى اللّه به عباده من نقم.. ثم إن للناس- مع هذا- شأنهم فيما ابتلوا به.. وفى هذا الابتلاء تنكشف أحوال الناس، ويميز اللّه الخبيث من الطيب.. ثم إنه- بعد هذا كله، وقبل هذا كله- لا يقع شيء إلا بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، وما قضى به في خلقه {وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} فكل شيء بيده وتحت سلطانه.. لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
والمراد بعلم اللّه هنا، هو علم ما وقع بعد أن يقع، وهو سبحانه، عالم به أزلا، ولكن لا يحاسب عليه إلا بعد أن يقع، ويصبح من كسب العباد.
واختصاص العلم هنا بالإيمان بالآخرة، أو الشك فيها، لأن الإيمان بالآخرة، وبالبعث والحساب والجزاء، هو ملاك الإيمان باللّه، وبآيات اللّه، ويرسل اللّه.. فليس مؤمنا باللّه، ولا بآيات اللّه ولا يرسل اللّه، إلا من كان مؤمنا باليوم الآخر.

1 | 2 | 3